في رحاب رمضان!

كان الصوم ثقافة وركنا في جميع الأديان الإبراهيمية، وحتى في الشرائع الوثنية، فقد كان قدماء المصريين والإغريق والرومان وسكان ما بين النهرين في العراق، كالصابئة المندائية والمانوية يصومون أياماً مختلفة، وعرف المصريون القدامى الصيام كفريضة دينية يتقربون بها من أرواح الأموات، ويعتقدون أن صيام الأحياء يرضي الموتى وتضامناً معهم لحرمانهم من طعام الدنيا، أما العرب فكانوا يصومون أول ثلاثة أيام من الأشهر الحرم، لأنها تغسل البدن وتريح العقل.

بالنسبة للدين الإسلامي فهو ركن أساسي من أركان الدين، وللصوم فائدتان جوهريتان، روحية وجسدية، فالأولى لعلاقات الإنسان الروحية، وأهمها علاقته بخالقه ثم علاقته مع من حوله، والثانية تحفيز الجسد نحو الكمال. للصيام فلسفة جوهرية وهي ليست الامتناع عن الطعام والشراب والغرائز، وإنما دورة تربوية لتهذيب الإنسان من الداخل والخارج، وإعطاؤه فرصة كي يطوع روحه ليمتطيها ويوجهها، فعند خلو المعدة من الطعام يقل تشتيت سلطة العقل، وتقليل ما يتم صرفه من طاقة ذهنية على الجهاز الهضمي والمعوي، ويبقى التركيز بمنطقة التفكير، وهنا يحدث الترويض للروح، لأن البطنة تذهب الفطنة، لذا يأخذ الإنسان استراحة شهر لجسمه وروحه بعملية محسوبة في السنة، لذا قال «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته».

رمضان «وقفة من الالتزام» مع أنفسنا، لنحدد طريقنا ومصيرنا بين كفتيّ الخير والشر، فالإنسان مخيّر وليس مسيّرا، ومع ذلك ومن كرم الله جل شأنه، اهتمامه ليبقى متصلاً بخليفته في الأرض دون انقطاع، حتى مع دوام عصيانه، فكما هو منغمس مع ما أُعطي من نعم الحياة وغرائزها، أعطاه ربه فرصة للرجوع عن الخطيئة والتجلي نحو الحق والطهارة، والدخول من باب شهر الرحمة، فجعل فيه أبواب السماوات مفتوحة للتقرب بالقرآن والدعاء وليلة القدر، وجعل فيه النفس لينة ومطيعة، والروح عرفانية وخفيفة، والشهوة لغرائز الحرام ضعيفة، فالنصر لنزعة الخير في هذا الشهر محتوم، والاندحار لنزعة الشر محسوم.. إذا هي فرصة قبل الفوت وذهاب الصوت، كي نروض نفوسنا ونأخذها إلى طريق الله.

 

روائي وباحث اجتماعي