من صمته تحترمه، ومن حيائه توقره، ومن وقاره تنحني له.. العنوان الثانوي

الراحل عبد المحسن أبو عبدالله

من أصعب ما يكتسبه الإنسان ويظل ثابتًا عليه هي المهارات الإنسانية التي تشكِّل مجموعة من القيم والمبادئ الأخلاقية والدينية التي يتربى عليها أو يكتسبها من تجارب الحياة، فنما وترعرع على ضوئِها، وشكَّلت له فيما بعد منبعًا روحيًّا وثقافيًّا يستند عليها عند حاجته إليها، ذلك أن هذه الثقافة الأخلاقية تعد مخزونًا معرفيًّا وأخلاقيًّا ناتجه سلوك على الصعيد الفرد والمجتمع، وعامل الفطرة والبيئة التربوية التي ينشأ عليها الإنسان، يلعبان دورًا مهمًا في تشكيل شخصية الإنسان، وكما ورد في قوله تعالى: ”فأَقِمْ وَجْهَكَ للدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَة اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَليها“، والحديث الشريف: ”كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه“.

ومن هنا نفهم من سياق الآية الكريمة والحديث الشريف، أن الله خلق كل الناس دون استثناء على مبدأ الفطرة السوية، وسلامة ونظافة نفس الإنسان من كل الشوائب، بمعنى أن أرضية الإنسان الذهنية والنفسية والقلبية متهيئة لقبول وحدانية الله «سبحانه وتعالى»، والإيمان بأنبيائِه وشرائعهم واحد تلو الآخر إلى أن يصل إيمانه وتصديقه إلى خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد ، وهو دين الله الحنيف الحق وهو الإسلام.

القيم والمبادئ الأخلاقية هي عناوين عريضة وواسعة، تتضمن مجموعة من العناوين الأخلاقية المتفرقة، وفي داخل هذه المجموعة تندرج مفاهيم من القيم والمبادئ الأخلاقية، وكل عنوان منها له مدلول ومفهوم معين وسلوك اجتماعي محدد.

وعلى سبيل المثل لا الحصر، عندما يطلق على شخص بأنه ”كريم“، فهنا نقول إن الكرم له عدة وجوه: بعض الكرم يكون في المال، وبعضه يكون في روح المبادرة، وبعضه في اللسان، وبعضه يكون في عطاء من وقته، وعلى هذا الأساس يتشكل عندنا فهم متكامل لطبيعة العطاء والجود والكرم حسبما يقدمه الإنسان للطرف الآخر أو إلى المجتمع.

وقِسْ على ذلك بقية العناوين الأخلاقية الأخرى، كالتواضع والصمت والصبر والحياء والاحترام والتعايش وحرية التعبير والالتزام بالقيم الدينية والعدل والصدق والوفاء والمساواة، وما شابه ذلك من القيم والمبادئ التي تعبر عن الروح الإنسانية.

وهنا يأتي دور الفطرة السوية والنشأة والتربية، وهي مجموعة من الثقافة التي تقوم على بناء شخصية الإنسان مما اكتسبه من هذه الثقافة الأخلاقية النابعة من هذه الأيقونة الأخلاقية المتنوعة، وعبر عامل الفطرة والتربية والنشأة المكتسبة من البيئة والثقافة التي تغدى عليها فكره، يكشف لنا عامل الزمن والتجارب الشخصيات الصادقة في قيمها ومبادئها، ويميزها عن الشخصيات الزائفة والمصنعة والجوفاء.

المرحوم الأخ الكريم والأستاذ النبيل المهندس عبدالمحسن أبو عبدالله رحمه الله، كان يمتلك عدة سمات إنسانية من القيم والمبادئ الصادقة التي تجعلك تحترمه وتوقره بها، أبرزها وأهمها احترامه لنفسه ولغيره وما يعتقده، وهذه السمة قد تشكل أصعب السمات الأخلاقية؛ لأنها يعتريها تغيرات في حياة الإنسان وهو عامل مرتبط بحالة استقرار العامل النفسي والمزاجي الشخصي وفي قوة إدارة الأزمات النفسية مع ما يواجه من تحديات حياتية، وهنا تكمن الصعوبة في مدى إظهار أصالة وتجذر هذه القيم والمبادئ في عمقه الإنساني والديني والاجتماعي.

غالبًا، مَن اقترن بالمرحوم سواءً كانت صداقة طويلة أو قصيرة أو زمالة عمل، أو اجتمع معه في حوار ثقافي أو ديني أو اجتماعي، يكتشف فيه مدى سمة الاحترام الراسخة فيه لغيره وما يعتقده، فهو لا يسلب من الآخر حرية التفكير واختيار الطريق والتعبير عن الرأي، بل هي السمة البارزة في شخصيته وفكره، فتجد ابتسامته التي لا تفارق محياه، في صمته، في اختلافه الفكري مع الآخر، وفي حيائِه، وفي فكره وتأمله وبساطته وتسامحه وتصالحه، بالرغم من أنه يعد أحد أبرز المثقفين على مستوى المنطقة وخارجها. كان كاتبًا ومؤلفًا ومنظرًا ومحلِّلًا ومستشرفًا للمستقبل وناشطًا دينيًّا واجتماعيًّا. تجده مع كل الناس في أفراحهم وأتراحهم ومع مختلف طبقاتهم الاجتماعية، بل لمستُ فيه أنه ثلاثي الأبعاد في التفكير.

تشرفت بمعرفة المرحوم «رحمه الله» منذ ثلاثين عامًا تقريبًا، عندما كنا نلتقي في مسجد الإمام زين العابدين الواقع في حي الدشة بتاروت، لأداء صلاة الجماعة بإمامة سماحة الشيخ الأستاذ فؤاد آل خيري «حفظه الله»، وكان يرافق مجموعة ”المقبقبية“، وكان يتقدمهم العم العزيز الحاج أبو ياسر المقبقب ولعله كان أكبرهم سنًّا، ويأتي من بعده في صف المرحوم أخوه الأخ العزيز الحاج أبو حسين المقبقب وبعض من أفراد عائلتهم الكريمة، وبعض الأحيان كنا نلتقي معه في منزل الصديق العزيز والناشط الديني والاجتماعي العم الأستاذ عبد المحسن آل كيدار «أبو ماهر».

ويُعد الأستاذ أبو ماهر من الشخصيات البارزة والمحترمة والموقرة في الوسط الاجتماعي والديني، وله عدة أنشطة اجتماعية وأبرزها إدارته لحسينية الزهراء الواقعة في قلب بلدة سنابس، التي لها فضل كبير على المجتمع وأبنائِه، وفي تربية وتثقيف أجيال عديدة من داخل المنطقة وخارجها، وهو أحد خدمة أبي عبدالله الحسين والعترة الطاهرة منذ زمن طويل كرفيق دربه المرحوم أبي حسين رحمه الله.

ومنذ تلك الفترة التي تشرفنا فيها بمعرفة المرحوم حتى رحيله إلى الملكوت الأعلى، كانت سماته الإنسانية والأخلاقية والدينية والعلمية في تزايد لا نقصان، وحتى في أحلك الظروف الصعبة التي مرت عليه، فقد استطاع إدارتها بعقل كبير وحكمة بالغة وقلب عطوف وصدر رحب وبلغة إنسانية متحضرة قلة نظيرها، وقد رأى الجميع.. أصدقاؤه والمجتمع كيف كان صلب الإيمان بالله متوكلًا عليه.

تنوعت حياة المرحوم أبو عبدالله المشرقة والمباركة بين الدراسة الأكاديمية، إذ كان من أوائل خريجي جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وبين الحياة العملية فعمل في شركة أرامكو السعودية حتى تقاعد منها، وبين الكتابة فصدرت له عدة مؤلفات قيمة ورائعة، وبين الأنشطة الاجتماعية والدينية، إذ فرغ جزءًا من وقته لتلك الفاعليات مُنطلقًا من منزله، فأقام فيه مجلسًا لأبي عبدالله الحسين، وإجراء بعض الحوارات الثقافية المختلفة مع الإخوة المثقفين، وتعلُّم كتاب الله المجيد من تلاوة وتجويد وتصحيح قراءة وتعلم أحكامه وبيان آياته المباركة، علمًا أن المرحوم السعيد كان بعيدًا عن الأضواء والفلاشات الاجتماعية والإعلامية، فلم تكن ضمن اهتماماته الشخصية، وبالرغم من كل ذلك تفجَّر من صمته البديع ينبوع من المحبة والمودة وزرع في قلوب محبيه وردة جميلة تُشم رائحتها العطرة في كل حين.

وكان يحضر مجلسه مجموعة من القراء لكتاب الله المجيد، والمعلمين الكرام بما فيهم الإخوة المهتمين بالثقافة القرآنية، فضلًا عن مشاركاته في بقية الأنشطة والفعاليات الدينية والاجتماعية، ومنها المواسم القرآنية التي تقام في مختلف المناطق، وكثير ما كان يهتم بموسم الكتاب والثقافة، ولقد شهد لحضوره لهذه الفعاليات والأنشطة الثقافية كثير من أبناء الجزيرة وخارجها.

اختار الله لروحه الطاهرة أن تصعد إلى ملكوته في شهر الحسين وأيام الحسين لكي يكون ضيفًا عزيزًا عند حبيبه الحسين .

أبا حسين.. لك منا كل المحبة والمودة والاحترام والتقدير، ننحني إليك تكريمًا لشخصكم وإلى أخلاقكم العالية التي لم تتغير ولم تتبدل، بل كانت نورًا نستضيء بها كلما رأيناك أو ذكرناك.

والحديث والكتابة حول هذه الشخصية العملاقة والنافعة، يطول ويطول، ولنا إن شاء الله وقفات أخرى وأجمل مع هذه الشخصية الثقافية والاجتماعية والوطنية الفريدة، وليس لنا في الأمر غير أن نفوِّض أمرنا إلى لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

والفاتحة المباركة على روح فقيدنا السعيد أبي حسين.

 


 

كاتب رأي، وموظف في القطاع المصرفي.