القراءة سياحة في العقول

لا تنبع أهمية القراءة من كونها اطلاعًا على كلمات وجمل وصفحات من كتب فحسب، بل لأنها تعرض على عقل القارئ خلاصة لتجارب خاضها الكُتّاب على فترات زمنية تطول أو تقصر، حسب الجهد المبذول في كل منها. هي بمنزلة استماع لأصوات مرت عليها سنوات أو عقود أو حتى قرون لكن صداها لا يزال يتردد في المحيط الإنساني.

هناك بعض الكُتَّاب من يقضي عامًا كاملًا لإنجاز كتاب، ومنهم من يقضي عشر سنوات أو عشرين بل وأربعين حتى ينجز كتابه، كالكاتب الموسوعي ويليام ديورانت «1885 - 1981» الذي ألف موسوعة الحضارة، التي هي عبارة عن 42 جزءًا، إذ استغرق في كتابتها أربعين عامًا «1935 - 1975»، ويتحدث فيها عن قصة الحضارات البشرية منذ بدايتها حتى القرن التاسع عشر. وهناك غيره من الكتاب من استغرق سنوات أقل وربما أكثر من ذلك.

وهذه الأعوام تعكس مدى الجهد المبذول في الكتابة، التي هي عبارة عن رؤى وأفكار راكمها المؤلف ووثقها بين دفتي كتابه، لكن القارئ يقرؤها خلال ساعات أو أيام. وبقراءة هذه الكتب فإن القارئ يقوم بسياحة حقيقية في عقول مؤلفيها، ويقطف ثمار أفكارهم وكأنه في حوار معهم، كما قال الفيلسوف رينيه ديكارت: قراءة الكتب الجيدة كمحادثة أفضل الرّجال من القرون الماضية.

القراءة سياحة في عقول الكُتّاب، لأن الكاتب يبرز في كتبه أفضل ما توصل إليه من فكر، كما في السياحة المعروفة التي يقوم فيها السائح بزيارة أفضل المواقع، إما في محاولة لإظهار هذا العلم، وإما من أجل إقناع القارئ بفكرة ما قد تكون مجردة أو ممثلة لتيار فكري أو اتجاه علمي، وهي أيضًا سياحة العقل في جميع مناطق ومساحات الفكر الإنساني، أو كما قال الدكتور عبد الله الغذامي في إحدى تغريداته: سياحة ذهنية تصنع أثرًا عميقًا كلما كانت خاطفة وقصيرة بين انشغال وانشغال، وستكون حينها بمثابة اغتسال روحي.

إن القارئ عندما يتصفح كتاب مفكر ما فهو إنما يتواصل معه ويطلع على أفكاره، وقد يتفق معه وقد يختلف، كما أنه قد يلتقي معه في كونهما هما الاثنان قد قرآ لكاتب آخر مشترك واتفقا أو اختلفا معه، يلتقيان رغم اختلاف الزمان والمكان والجنس والعرق والدين.

القراءة هي سياحة في عقول كُتاب لم تلتقهم، وربما دون أن تبرح مكانك، كأرخص سياحة في العالم بأبخس الأسعار بأعظم المردودات، إنْ على المدى القصير أو الطويل.