الذكرى الثامنة عشرة لرحيل سماحة آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لرحيل فقيدنا الغالي سماحة آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي قدس سره

الفقيه الشيرازي… تلميذُ القرآن

قراءة في كتاب كيف نفهم القرآن؟

رضي منصور العسسيف

كيف يُبنى الإنسان القرآني؟

سؤالٌ يبدو بسيطًا في ظاهره، غير أن جوابه عميقٌ يغوص في سرّ العلاقة بين الإنسان والوحي. فالإنسان كلما ارتبط بعظيمٍ، حمل من عظمته نصيبًا، وكلما التصق بمصدرٍ للنور، تشبّع من ذلك النور. وهكذا هو القرآن؛ من يجعل حياته ظلًّا لآياته، وكلماته جليسًا له، وحركته منطلقًا من روحه… يصبح بلا شك عظيمًا.

هذا المعنى تؤكده روايات أهل البيت . فقد روي عن الإمام الصادق :

«من قرأ القرآن وهو شابٌّ مؤمن، اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله مع السفرة الكرام البررة… وكان القرآن حجيزًا عنه يوم القيامة» «1».

إنها منزلة لا يدركها إلا من عاش مع القرآن معاشرة الصديق، لا تلاوة العابر.

وفي حديث آخر يرسم الإمام علي صورة لبيتٍ يتنفس قرآنًا:

«البيت الذي يُقرأ فيه القرآن… تحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما تُضيء الكواكب لأهل الأرض» «2».

هو بيتٌ لا تُرى فيه الأنوار بالعين، بل تُحسّ بالطمأنينة التي تلفّ الأرواح.

ولأن مرحلة الطفولة أنقى المرافئ لغرس الحبّ القرآني، جاءت التوصيات بأن يُنشّأ الطفل على ترديد الآيات الأولى من لسانه، حتى يصبح القرآن دمًا يجري في أوداجه، وثقافةً راسخة في وعيه. لذلك قال أمير المؤمنين : «إذا قال المعلّم للصبي: قل بسم الله الرحمن الرحيم… كتب الله براءة للصبي، وبراءة لأبويه، وبراءة للمعلّم» «3».

الفقيد الشيرازي… نموذج الإنسان القرآني

كان الفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي «قدّس سرّه» أحد أولئك الذين صادقوا القرآن منذ حداثة أعمارهم. التحق بمدارس حفظ القرآن في كربلاء، حيث غُرست في صدره البذرة الأولى للنور، فنما محبًّا للآيات، محبًّا لتدبرها، حتى حفظ سورة البقرة وهو في سنٍّ مبكر.

وحين شبّ، صار من رواد دروس «بحوث في القرآن الحكيم» وتفسير سورة البقرة، التي كان يلقيها المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي «حفظه الله» في الكويت. وكانت تلك الحلقات الشرارة التي قادته إلى تأليف كتابه القيّم: «كيف نفهم القرآن؟»، الذي أراده خطوة نحو فهم جديد، وتعامل حيّ مع آيات الله.

دعوة إلى التدبر… إحياء القلب بالآيات

استجاب الفقيه الشيرازي للدعوة القرآنية الخالدة:

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا «محمد: 24».

وتناغمت هذه الدعوة مع ما ورد عن الإمام زين العابدين : «آيات القرآن خزائن، فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها» «4»، ومع قول النبي الأكرم : «إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا مائدته ما استطعتم» «5».

لقد كان الفقيد يمارس التدبر ممارسة العاشق، لا الباحث فحسب. وكان يرى أن التدبر هو الطريق الطبيعي للعمل بالقرآن، وأنه متاح لكل الناس، كلٌّ بقدر علمه وذكائه، باستثناء آياتٍ تحتاج خبرة الفقهاء والمتخصصين.

منهج التدبر عند الفقيه الشيرازي

انطلق سماحته من قول الإمام الصادق : «اقرؤوا القرآن واستظهروه، فإن الله لا يعذب قلبًا وعى القرآن» «6».

ومن هنا صاغ منهجًا يسير بالإنسان إلى وعي الآيات، لا مجرد ترديدها.

يقوم المنهج على طرح أسئلة عميقة حول كل ظاهرة قرآنية، ومنها:

1. معنى الكلمة ودلالاتها.

2. اختيار الكلمة دون غيرها.

3. موقع الكلمة في السياق.

4. الشكل الخارجي للجملة.

5. التسلسل المعنوي بين الآيات، والانتقال من معنى إلى آخر.

6. التصنيف وجمع الآيات المتقاربة لفهم رؤيتها الكلّية.

وشرح الفقيد هذه المحاور بأمثلة تفتح للقارئ باب التدبر خطوة بعد خطوة.

كلماتٌ تبقى…

للراحل كلمات تلمس القلب، وتدعوه إلى مصاحبة القرآن، منها:

«علينا اليوم أن ننفض عن أنفسنا غبار الماضي، ونبدأ تعاملًا جديدًا مع القرآن… كما أراده الله لنا».

«القراءة الميتة للقرآن لا تتجاوز اللسان… أما التلاوة الواعية، فتتجاوز اللسان لتنفذ إلى القلب وتهزّه».

«الخيارات الصعبة التي تواجه الفرد والأمة لا يُهتدى فيها إلا بالرجوع إلى القرآن».

«على الإنسان أن يكون التلميذ المتواضع أمام القرآن، لا أن يُخضع القرآن لرغباته… بل يُخضع نفسه لما يريده القرآن».

ختامًا…

رحم الله الفقيه الشيرازي، الذي جعل القرآن رفيق عمره، وجعل الله القرآن شفيعًا له يوم القيامة، كما قال رسول الله : «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه» «7».

1» محمد رضا الحكيمي، الحياة، ص 170، الطبعة السادسة 1410 هـ ، الدار الإسلامية، بيروت لبنان.
2» المصدر السابق ص 170
3» وسائل الشيعة ط - آل البىت - الشيخ حرّ العاملي
4» محمد رضا الحكيمي، الحياة، ص 164
5» المصدر السابق ص 159
6» مستدرك الوسائل ج 2 ص 294,7» الدر المنثور ج 1 ص 18
أخصائي التغذية العلاجية