الشيخ البلاغي وتفسيره الذي لم يكتمل
حياة الشيخ محمد جواد البلاغي ( 1282-1352 هـ الموافق 1860-1930 م ) حياة تستحق أن تقرأ من أكثر من جانب؛ فطالب العلم يستطيع أن يستضيء بنور هذه الشخصية المتميزة التي مرت بأصعب الظروف المادية والاجتماعية ولكنها شقت طريقها ممتطية الزهد مركبا، وموطنة النفس على بلوغ الأهداف السامية رغم وحشة الطريق، متحلية بأخلاق عز نظيرها مثل نكران الذات، فلم يطلب كتابة اسمه على بعض مؤلفاته في طبعاتها الأولى مثل كتاب التوحيد والتثليث وكتاب الرحلة المدرسية، وكان يقول: إن مقصدي من التأليف هو الدفاع عن الحق والحقيقة وصولا إلى رضا الله سبحانه وتعالى، فلا ضير إن لم يكتب اسمي على غلاف الكتاب أو يكتب اسم شخص غيري.ويستطيع الباحث أن يستفيد من منهجه الموضوعي في الإحاطة بموضوع بحثه من كافة جوانبه، ومناقشته لكافة الآراء بتجرد وإنصاف، ورحابة صدره الذي لا يضيق بالنقد أبدا. والدليل على ذلك كتبه الحوارية وردوده العلمية الرصينة المتضمنة في مؤلفاته العديدة والتي تكشف عن معرفة عميقة بالآخر ووعي بمقتضيات العصر الذي يعيش فيه. فقد تسنى له أن يتقن إلى جانب اللغة العربية اللغة الإنجليزية والفارسية والعبرية، وقد وظف ذلك في التعرف على العهدين القديم والجديد وبالتالي الرد العلمي المنهجي على أهل الكتاب المبني على الدليل البعيد عن لغة التجريح.
ويستطيع السياسي المقاوم أن ينهل من معين جهاده في مقاومته للاحتلال البريطاني للعراق، حيث كان الشيخ في الصفوف الأولى للمجاهدين ضد الاحتلال، وكان يمارس المقاطعة الاقتصادية للبضائع الأجنبية كأحد أساليب المقاومة، بالإضافة إلى مقاومته الشرسة الشريفة للثقافات الدخيلة الهدامة والتي يروج لها الاحتلال كجزء من مشروعه، ويبرز ذلك من خلال مصنفاته في الرد على الماديين والبابيين والبهائيين وغيرهم.
أما مشروعه التفسيري الذي لم يكتمل ( آلاء الرحمن في تفسير القرآن )؛ فهو لا يخرج عن بقية مشاريعه الهادفة إلى الدفاع عن حياض الحق بالحق وبأسلوب جذاب يبتعد عن التعقيد والتقعر. لقد استطاع الشيخ البلاغي (الفقيه الأصولي اللغوي الموسوعي) أن يستثمر معارفه الجمة في تفسير القرآن وفي الرد على الشبهات المثارة ضده من قبيل القول بتحريفه، وفي إيضاح الجوانب الإعجازية المختلفة للقرآن بما يثبت أنه الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وفي موضوعية تامة وحيادية عالية ينقل الشيخ البلاغي في تفسيره الأحاديث والروايات من مصادر الفريقين السنة والشيعة، ويقف منها جميعا نفس الموقف من القبول أو الرفض بعد النقد والتمحيص، فيمكن أن يدفع رواية في تفسير القمي ويقبل بأخرى في تفسير الدر المنثور للسيوطي أو العكس وذلك بعد مناقشة كل منها سندا ومتنا، فالحق رائده دائما.
فبجانب المصادر الشيعية التي كانت عنده أثناء كتابة تفسيره، كانت لديه العديد من المصادر السنية التي اعتمدها كما يذكر هو في مقدمة تفسيره معددا مصادره قائلا: ومن كتب أهل السنة في التفسير تفسير الطبري، والكشاف، والدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي، ومن كتب الحديث جوامعهم الستة، وموطأ مالك، ومسند أحمد، ومستدرك الحاكم، وكنز العمال ومختصره.
وأعتقد أنه لو قدر لهذا المشروع أن يكتمل لأحدث نقلة نوعية بين التفاسير؛ خصوصا فيما يتعلق بالآيات المتعلقة بأهل الكتاب لما كان له من سعة اطلاع وتبحر في هذا الشأن، وقد ذكرت مثالا على ذلك في مقال لي سابق أعيده هنا للفائدة.
ففي تفسير كلمة ( راعنا ) في قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (104) سورة البقرة
يقول: قد تتبعت العهد القديم العبراني فوجدت أن كلمة «راع» بفتحة مشالة إلى الألف و تسمى عندهم «قامص» تكون بمعنى الشر أو القبيح. و من ذلك ما في الفصل الثاني و الثالث من السفر الأول من توراتهم و بمعنى الشرير واحد الأشرار. و من ذلك ما في الفصل الأول من السفر الخامس. و في الرابع و الستين و الثامن و السبعين من مزاميرهم. و في ترجمة الأناجيل بالعبرانية و «نا» ضمير المتكلم و في العبرانية تبدل ألفها واوا أو تمال إلى الواو فتكون راعنا في العبرانية بمعنى شريرنا و نحو ذلك).
ويكفيه أن تخرج من مدرسته المرجع الكبير السيد أبو القاسم الخوئي الذي كتب ( البيان في تفسير القرآن ) كمقدمة للتفسير، وكذلك المفسر العظيم السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير ( الميزان ) الذي يعد من أعمق التفاسير التي جمعت بين المنقول والمعقول.
ما أحوجنا في هذه السنوات العجاف إلى مثل الشيخ البلاغي، وما أحوجنا في شهر القرآن أن نطالع تفسير آلاء الرحمن.