من يدير الآخر؟!
لن أتحدث هنا عن المدير ومرؤوسيه ومن يدير الآخر؛ خصوصا في ظل ما يقدم هذه الأيام من دورات تدريبية عن كيفية إدارة مديرك أو رئيسك، وفي الواقع – وبغض النظر عن هذه الدورات – هناك مدراء يدارون بواسطة مرؤوسيهم من مستشارين وحواشي، بل وسكرتارية ربما.
ولن أتحدث عن الزوجين ومن يدير الآخر، حيث يدعي بعض الرجال أنهم يتمتعون بهيبة السلطان العسوف داخل البيت وأنهم إذا دخلوا منازلهم هب الكل واقفا مرتعدة فرائصه، في نفس الوقت الذي تدعي بعض النساء بفخر لا يحسدن عليه أنهن جعلن من أزواجهن خاتما في أصابعهن يحركنه كيفما شئن، وأن أزواجهن يمشون على العجين دون أن يتلخبط كما تقول المصريات.
يقال سألوا نابليون: من يحكم فرنسا؟ فأشار إلى ابنه الصغير، قالوا له: وكيف ذلك؟! قال: أنا أحكم فرنسا وزوجتي تحكمني وولدي يحكمها.
ما سأتحدث عنه ليس هذا ولا ذاك، بل عن شيء أعمق وأصعب حتى من حكم فرنسا؛ وأعني به إدارة الذات والمشاعر والانفعالات، فالذي ينجح في هذا الميدان، ميدان الجهاد الأكبر كا سماه رسول الله ، يكون إداريا من الطراز الأول، مؤهلا لتحقيق النجاحات في سائر الميادين، والذي يفشل هنا ويفلت منه عقال السيطرة على انفعالاته ومشاعره، تصبح كل نجاحاته الأخرى ظاهرية وسطحية دون عمق ولا تمس الجوهر، وهذا ما نشهده حين نرى شخصيات ذات بريق إعلامي مبهر تقدم على الانتحار أو تصاب بالاكتئاب وغيره من الأمراض التي قد تنتهي بها إلى المصحات النفسية في أحسن الأحوال.
أقول: لقد اختصر الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كل ما قلناه وزاد عليه حين قال: ميدانكم الأول أنفسكم، فإن قدرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن عجزتم عنها كنتم عن غيرها أعجز.
أما كيف نسيطر على مشاعرنا وانفعالاتنا، فهذا ما سأتعرض له في السطور القادمة.
بداية أود التأكيد على حقيقة أنه ليس مطلوبا منا قمع المشاعر والانفعالات أو إلغاؤها، فهذا ضد الطبيعة البشرية، بل المطلوب إدارتها بحيث لا تخرجنا من طاعة الله أو تدخلنا في معصيته، فالعين تدمع والقلب يحزن ولا نقول ما يغضب الرب، والقرآن يحدثنا في آيات كثيرة عن انفعالات ومشاعر من اصطفاهم الله لرسالاته من غضب موسى وحزن يعقوب على فراق ولده وتعجب النبي إبراهيم وكذلك زكريا حين بشر كل منهما بالولد في سن متأخرة، وتأسف النبي محمد وحزنه على عدم إيمان قومه برسالته، بل إن القرآن الذي يحظر بعض الفرح الذي يمكن وصفه بالقاروني: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ (76) سورة القصص، يأمر في موضع آخر بفرح حقيقي من نوع آخر: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (58) سورة يونس.
هذه حقيقة ينبغي استيعابها جيدا.
الحقيقة الثانية أن تغيير طباع النفس ممكن بشرط توفر الرغبة والعزيمة، إذ بدونهما لا يمكن أن يحدث شيء حتى لو حضرنا مليون دورة في التغيير.
الحقيقة الثالثة: أن التغيير لا يحصل دفعة واحدة وإنما يحتاج إلى التدرج وما يمكن أن نطلق عليه السياسة النفسية بما تعنيه السياسة من فن الممكن، والممكن تختلف بالطبع مساحته من شخص لآخر.
أما بداية التغيير فتكون عن طريق تحديد السلوك المراد تغييره، وليكن الغضب مثلا وهو مفتاح كل شر. بعد ذلك على الإنسان أن يطلع قدر الإمكان على الأدبيات المتعلقة بهذا السلوك سواء كانت دينية أو نفسية أو اجتماعية ليمتلك معرفة أعمق بالسلوك محل التغيير وما هي آثاره السلبية على الصحة والحياة، وكذلك الآثار الإيجابية التي يمكن أن يجنيها عند السيطرة عليه.
يلي ذلك أمور ثلاثة، كما يحددها علماء الأخلاق، وهي كالتالي:
1- المشارطة: وتكون قبل الفعل، وذلك بأن يشترط الإنسان على نفسه أن يسيطر على غضبه مثلا لمدة نصف نهار مثلا.
2- المراقبة: وتكون أثناء الفعل، حيث يراقب الإنسان سلوكه خلال الفترة التي حددها ليراقب التزامه بما شارط به نفسه.
3- المحاسبة: وتكون بعد الفعل، ليحاسب الإنسان نفسه، ويكتشف نقاط ضعفه وقوته، ويكافئ نفسه على النجاح ويعاقبها بصورة أو بأخرى على التقصير والإخفاقات.
هذه بعض الطرق، ويمكن أن يستفيد الإنسان من معطيات العلوم الحديثة أيضا في مجالات التربية وعلم النفس والاجتماع وغيرها من العلوم الإنسانية في تغيير سلوكه وإدارة مشاعره وانفعالاته ليلتحق بموكب الناجحين الحقيقيين.