عاشوراء.. وتجلي الإسم الأعظم

إن من أوسع الرحمات الإلهية هو التجلي بالإسم الأعظم على عالم الملك، فهذا التجلي فيض بالرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية على العباد، بل هو باب لمعرفته عز وجل والقربى منه، فطوبى لمن تعرض لهذا الفيض، ونال من هذا التجلي بالقدر المستطاع.

ولقد ربط المولى عز وجل هذه التجليات للأسماء الحسنى بمواقيت زمانية ومكانية، وجعلها شرعاً وديناً وعبادة ليتقرب إليه فيها عباده المؤمنين، وتكون سبباً لرحمته وفيضه عليهم، وغفراناً لأخطائهم وتكفيراً لذنوبهم، ولطفاً منه لهدايتهم واستبصاراً لهم من غفلتهم، وجذباً لهم من بعدهم، ومعراجاً لهم لقربه، وباباً لجنته ورضوانه.

ولقد شرّع المولى عز وجل عدداً من الشعائر تفضلاً ورحمة منه عز وجل على عباده. ودعا المؤمنين للتعرض لرحمته في هذه المواقيت، والتقرّب إليه فيها علّه يصيبهم من رحمته بصيص أمل، أو ضياء بصيرة، أو مصباح هدى، أو مشكاة هداية، أو شمس حقيقة، أو أن تحترق قلوبهم بحرارة نار المعشوق، أو أن تُكشف كدورات الدنيا عن ضمائرهم، أو أن تخرق حجب النور أبصار قلوبهم، فتستيقض بصائر عقولهم عن الغفلة، فتطوف أبدانهم طواف خلود القرب حول عزّ القدس، فلا يريدون عنه بدلا. أو أن يهتدوا من الضياع في صحراء التيه بين الآثار والأدلة، ليصلوا إلى مبتغى قلوبهم، وكعبة معشوقهم، ويهتدوا إلى الوادي المقدس، فيذهب الوقر عن آذانهم ويسمعوا نداء الصدق، وتزال الغشاوة عن أعينهم، فيروا جلالة نور الحق، وتحترق أبدانهم بحرارة القرب، فيستغنوا عن الآثار في محضر الشهادة «مَحَقْتَ الآثارَ بِالآثارِ وَمَحَوْتَ الأغْيارَ بِمُحِيطاتِ أَفْلاكِ الأنْوارِ»، فيسبحوه ويكبروه ويهللوه ويحمدوه ويتطوقوا بالبيت المعمور.

الشعائر وتجلي الإسم الأعظم

إن هذه الشعائر هي مواقيت التجلّي للإسم الحسنى على عالم الملك، فهي مواقيت خاصة بالفيض والتجلي لاسمه الأعظم من خلال أسمائه الحسنى، فدعا المؤمنين للتعرض لهذه التجليات والفيض بالرحمة على عالم الملك، فتجد المؤمنين ينجذبون روحياً لما دعاهم له في سرائرهم لإحياء هذه المواقيت بتوفيقه وبفضلٍ منه ورحمة «وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ».

أن هذه التجليات للإسم الأعظم بواسطة الأسماء الحسنى التي حدثت في ظروف محددة مثل التجلي على إبراهيم الخليل في مكة عندما بنا البيت وأراد ذبح ابنه فداءً لله، أو التجلي لموسى، أو كالتجلي على الرسول الخاتم في مقامات الصلاة، أو التجلي في ليلة القدر. إن هذه التجليات التي حدثت على عباده المخلصين في عالم الملك لا تنقطع أبداً عن هذا العالم، لتكون سبباً للفيض والرحمة. فهذا التجلي الذي نزل إلى عالم الملك لا يزول، ولكنه مرتبط بمواقيت زمانية ومكانية بحسب إمكانيات وقوانين عالم الملك «إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا» سورة النساء. ومثال ذلك كالشمس، فهي موجودة بشكل دائم، ولكننا لا نراها إلا في ظروف زمانية ومكانية محددة. فالشمس لا تزول «نسبياً»، ولكن الفيض بالنور مرتبط بقوانين الكون مع بعد التشبيه.

التجلي في الحج الإبراهيمي

من مظاهر هذا التجلي هو التجلي على إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وهو يقف في عرفات ويرمي الشيطان بالحجارة، ويقدم إبنه للذبح ويتطوف بالبيت. ولقد ربط المولى عز وجل هذا التجلي بهذه المواقع والأحداث، فجعلها تشريعاً واجباً على عباده المؤمنين لكي يحرموا ويقفوا في عرفات للتوبة، ويبيتوا بمزدلفة، ثم يرموا الشيطان بالجمرات، ثم يتطوفوا بالبيت العتيق، ويسعوا بين الصفا والمروة، لكي ينالوا هذه الرحمة ويتعرضوا لهذا التجلي. فسبحان من ربط التجلي بهذه الأفعال البشرية. وكذلك كان الصوم إعداداً للإنسان للتجلي في ليلة القدر.

التجلي وميقات موسى

«وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» سورة الأعراف.

لقد دعا المولى عز وجل موسى للتعرض للفيض والرحمة، والإفاضة بالعلوم الربانية والتوراة، ولعل ميقات القرب كان على مراحل للصعود، لكي يتمكن من القرب أكثر فأكثر، ويتحمل الفيض أكثر فأكثر، فقابلية الإنسان للفيض قد تحتاج إلى وقت وتمرين. فتكرار العبادات بمواقيت الفيض كالصلاة اليومية، أو الصوم أو الحج والعمرة، هي ليزداد الإنسان قرب، وليتمكن من الحصول على الفيض أكثر فأكثر. فصلاة الطفل ميزاناً لا تكون كصلاة الشيخ الخاشع في صلاته. والمراد أن الفيض هو هو، ولكن قابلية الإنسان لتحمّل الفيض تحتاج إلى تمرين وتكرار للعبادات لتزداد القابلية، أو أن القابلية تنقص وتقل بسبب كدورات الذنوب، وحجب الدنيا وملهياتها.

ولعله لذلك شرّعت المستحبات ليزداد الإنسان قدرة على تقبّل الفيض الإلهي، فيزداد قرباً فهناك استحباب صوم رجب وشعبان ليزداد الإنسان إستعداداً للفيض قبل ميقات الصوم في شهر رمضان، وإعداداً لليلة القدر. كذلك هناك الصلوات والأذكار المستحبة، والأعمال الصالحة، والصدقات. ولكن كل هذه الأعمال لابد وأن تكون مخلَصة لله كشرط لتقبل الفيض. وإلا إذا كانت للدنياً فليس لصاحبها الا التعب والعناء.

فكان ميقات موسى بادئ الأمر ثلاثين يوماً، حسب القابلية الأولى لموسى . ولما أكمل موسى الثلاثين يوماً بنجاح، وإزدادت قابليته للفيض، تفضل الله عليه بمزيد من الفيض والقرب، وأتمم له الميقات بعشر أيام أخر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة. بعد إتمام الأربعين ليلة، وحصول موسى على مزيد من الفيض، واستماعه لكلام الله، طمع موسى بمزيد من الفيض وأن يتم التجلي عليه بالإسم الأعظم. ولكن المولى عز وجل يعلم أن قابليته لا تستطيع تحمل التجلّي بالإسم الأعظم. فأراه كيف انهار الجبل الأشمّ أمام هذا الفيض وأصبح دكاً، وسقط موسى مغشياً عليه من مجرّد رؤية آثار الفيض والتجلّي. فكيف لموسى أن يتحمل التجلّي مباشرة، وهو لم يتحمّل رؤية أثر الفيض والتجلّي للإسم الأعظم.

«وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا»

ميقات عاشوراء

يبدأ ميقات الإمام الحسين بثلاثين يوماً من شهر ذي الحجة، ثمّ يزداد عشراً من محرم، ليتمّها أربعين يوماً في العاشر من محرم، أي أربعين يوماً كما كان ميقات موسى . فالإمام الحسين بعد أن تطوّف بالكعبة، توجه إلى لقاء الله، وفي كل موقف يقفه، أومنزلٍ ينزله، أوبلاءٍ يصيبهُ لا يزداد إلا إشراقاً وقرباً من مشكاة النور، وتنكشف له المزيد من الحجب، ليصل إلى البيت المعمور ويتطوّف به، ثمّ يتقبل فيض التجلّي للإسم الأعظم.

إن نعيم التجليات التي كان يتلقاها الإمام الحسين لا يمكن وصفها بقلم أو بعلم إكتسابي، فهي حرارة الشوق إلى الخالق، وحقيقة الشهود، ورغم عظم المصائب التي كانت تنزلُ عليه، كان يهوّن عليه وقعها أنه في الحضرة الإلهية، وأنها بعين الله، وبقدرته، فلم يغفل عن ذكره عز وجل طرفة عين. عندما يرى تساقط أصحابه وأولاده الواحد تلو الآخر فهو لا يزداد إلا إشراقاً ونوراً وقرباً. وعندما يذبح إبنه علي الأكبر أو طفله الرضيع على صدره، وكل هذه الأحداث في ساعة من نهار، لا يزداد إلا عطاءً لله وتقرّباً منه، ويزداد الفيض والتجلّي والقرب منه عزّ وجل.

عاشوراء.. التجلّي الأعظم

إن هدف الفيض على الإمام الحسين هو لكي يُري المولى عزّ وجلّ فيضه وتجليه بالإسم الأعظم لعباده ولملائكته ورسله وأنبيائه، ولكي يتقرّبوا إليه بحق هذا الفيض الأعظم، فيكون سبباً لنجاتهم ورحمته عليهم. فمن ذا الذي يتحمل هذا الفيض غير الخمسة أصحاب الكساء. فهذا موسى وهو من أولي العزم، خرّ صعقا عندما رأى آثار الفيض على الجبل الأشم، ولم يكن الفيض عليه مباشرة.

فهذا الفيض رحمة للعباد لكي يستفيدوا من آثار هذا الفيض الأعظم وانعكاساته، فيتقرّبوا لله عز وجل بحق هذا الفيض، وما أعظمه من فيض. وماهي أعمالنا حتى تقاس بهذا الفيض الأعظم. فهذا الفيض معراج العاشقين، ونجاة الغافلين «الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة». فإذا كانت شريعة الإسلام ظاهراً، فالحسين هو بعدها الروحي، وفيض الرحمة الرحيمية التي لا حدود لها. وإذا كان الوجود هو الفيض بالرحمة الرحمانية، فعاشوراء الحسين هي كمال الفيض بالرحمة الرحيمية «وَهُوَ مِنْكَ بَرَزٌ إِلَيْكَ» وهو تمام قوس الصعود «فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى».

فالمولى عزّ وجل يعلم أن البشر والملائكة المقرّبين لا يطيقون تحمّل هذا الفيض غير عباده المخلصين، فتفضل بهذا الفيض على عالم الدنيا لكي ينهل منه المتقرّبون، ويستغفره المستغفرون، ويرى آثاره العارفون، ويعشقه المحبون، وينتبهوا من غفلتهم الغافلون، فيفيض برحمته عليهم بفضل هذا التجلّي، ويغفر ذنوبهم ويتوب عليهم بالحسين . بل وينقلهم إلى درجة المحبين «أحب الله من أحب حسيناً»، فما أوسعه من فيض، والغافل من جهل حقه وظلم نفسه.

ومن جهةٍ أخرى فإن هئا الفيض تمام الإحتجاج على عباده وعلى ملائكته المقرّبين الذين أشكلوا بجعل خليفة بشري في الأرض. فهذا المخلوق البشري من الطين هو الذي يتحمّل الفيض الأعظم والذي لا تطيقه الملائكة المقربين «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» سورة البقرة.

إستغاثات الإمام الحسين أذان الحج الأكبر

ولكي تكتمل شعيرة عاشوراء، وتكون سبباً لرحمة البشرية أطلق الإمام الحسين عدداً من الإستغاثات يوم عاشوراء «ألا من ناصر ينصرنا لوجه الله، ألا من ذاب يذب عن حرم رسول الله». فغاية النداء هو أن يقبل البشر على هذا الفيض فيرحمهم المولى عز وجل، ويغفر لهم، ويتفضل عليهم. وهو مشابه لنداء إبراهيم الخليل للناس بالحج «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ».

فكما أن نداء إبراهيم كان للناس كافة، كذلك فإن نداء الإمام الحسين هو للناس كافة. ولكن إذا كان الحج قد يسقط عن الطفل أو الصغير، أو الشيخ الكبير العاجز، أو المريض، أو الفقير، فإن ميقات عاشوراء مفتوح للجميع. فنرى الشيخ الكبير كحبيب ابن مظاهر جنباً إلى جنب مع عبدالله الرضيع استجابةً لنداء الإمام الحسين . ذلك لأن الفيض الأكبر في عالم الدنيا، وهو غاية الوجود هو يوم عاشوراء. وهو باب رحمة الله الذي فتحه لعباده ليتوب عليهم ويتفضل عليهم برحمته. ولذلك نرى الأرواح الطاهرة والنقية، والتي سبق لها الرحمة من الله عز وجل، تنجذب لعاشوراء في كلّ مكانٍ وزمان.

«اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»